تقارير

تعرف على أول “مطعم في الظلام” بمصر وكيف يرشدون المكفوفون المبصرين

لافتةٌ معلقةٌ أعلى باب “فيلا” صغيرة بأحد الأحياء الهادئة بتلك المنطقة الأثرية التي تفوح منها رائحة الحضارة الفرعونية مكتوبٌ أعلاها “مطعم في الظلام”، تقود إلى مدخلٍ صغيرٍ تعج حوائطه والطاولات المتناثرة فيه بالرموز والأشكال الفرعونية، ومنها إلى تجربة فريدة تستمر قرابة ال90 دقيقة، يتبادل فيها المبصرون والمكفوفون الأدوار، هنا يُتناولون الطعام في ظلام دامس، بينما يرشدهم المكفوفون للطريق في العالم المظلم، ويقدمون لهم الطعام، ويخبرونهم بما أمامهم على الطاولات، بينما يستخدم المبصرون حواسهم الأخرى لاستكشاف ذلك العالم الجديد.

مشاعر مختلطة تموج في نفوس الضيوف، بينما يخبرهم مسؤول الاستقبال أنَّهم على وشك خوض تجربة جديدة، لم يختبروها من قبل، وحتى تكتمل التجربة عليهم أن يتركوا جميع ما يمكنه أن يصدر ضوءا في خزانة تغطيها الرموز الفرعونية، ليضعوا بها هواتفهم المحمولة، ساعاتهم، مفاتيحهم، وأي شيء من شأنه أن يعطي بريقًا ولو كان صغيرًا.

من غرفة الاستقبال الصغيرة، يدخل الضيوف قاعة انتظار، بينما يتشوق بعضهم لتلك التجربة، ويخافها آخرون، ليظهر بعض الفتيات الكفيفات، ويبدأنّ في إملاء التعليمات على الضيوف للتعامل مع العالم المظلم الذي سيدخلونه بعد دقائق معدودة: “إحنا المرشدين بتوعكم جوة ولازم تسمعوا كلامنا، متخافوش من التجربة إنتوا هتبقوا كأنكم في النور بالظبط ومش هنقولكم الأكل إيه إنتوا هتكتشفوه بنفسكم، عاوزينكم تقفوا في صفوف، وكل واحد يحط إيده الشمال على الكتف الشمال للي قدامه”.

مرشد كفيف يقود الضيوف نحو قاعة الطعام المظلمة ويدلهم على الطريق
ومن غرفة الاستقبال يخرج الضيوف في صفوف بضع فيها كل منهم يده على كتف من يتقدمه، بينما يقود الصفوف مجموعةٌ من الشباب المكفوفين نحو قاعة الطعام المظلمة تمامًا، والتي ما إن يدخلها الضيوف حتى يتسرب إلى نفسهم بعض الخوف في البداية، ولا يجدون أمامهم إلا تتبع صوت مرشدهم الكفيف، الذي بدا في تلك اللحظة كأنّه المبصر الوحيد في المكان، بينما يوجه مجموعةً أخرى لا ترى للسير يمينًا ويسارًا، داخل مكان لا يعرفون نهايته أو محيطه، حتى يصلوا لطاولتهم ويجلسون.

هنا في عالم المكفوفين، حيث الظلام يسود، وتنزوي حاسة البصر ولم يعد لها فائدة، تبدو الحواس الأخرى كالسمع واللمس والشم أقوى من المعتاد، ليبدأ الضيوف في تحسس المائدة أمامهم، ليكتشفوا منديلًا به شوكة وملعقة على يمينهم، وأمامها زجاجة مياه، بينما على اليسار كوبٌ زجاجي، بينما صوت المرشدة يبدو واضحًا حين تقول: “لما تيجوا تحطوا مية في الكوباية هتخلوا صباعكم جوة الكوباية شوية عشان المية متتدلقش وتغرق الدنيا”، فيما يرتفع صوت أحد الضيوف: “أنا مرعوب!”.

دقائق قليلة، وأحضرت المرشدة الكفيفة أطباقًا وضعتها أمام الضيوف، ليبدأوا في اكتشاف ما بداخلها “دي سلطة”، لتبدأ المرحلة الأخرى في اكتشاف مكوناتها لتتداخل الأصوات التي يتسابق أصحابها في البوح بمكوناتها “ده فلفل رومي، وده خس، وفيه حاجة زي المش، وحمص بس مش كتير، وجرجير”، فالتفاعل بين الحاضرين يزداد شيئًا فشيئا، بينما تعمل حواس اللمس والسمع والشم على استكشاف ذلك العالم المجهول.

الخوف والحماس والرغبة في استكشاف العالم داخل الظلام تسيطر على الضيوف
ما حدث في “طبق السلطة” ومكوناته تكرر مع الطبق الرئيسي و”طبق الحلو”، فينهي الضيوف أحد الأطباق ويستكشفونه، ثم ترفع المرشدات الأطباق، ليضعوا الطبق الثاني وهكذا، بينما الشخص “المرعوب” في بداية التجربة يبدأ التفاعل مع الآخرين ويزول عنه الرعب، فيما ارتفع صوتٌ من طاولةٍ أخرى قائلًا: “أنا كأني شايف وعارف أحدد الدنيا حواليا”، ليؤيده آخرون أصبحوا لا يواجهون مشكلة مع الظلام كلما مر الوقت.

بنفس طريقة الدخول عن طريق المرشدات، خرج الضيوف مع تنبيه منهن: “حاولوا تبصوا في الأرض أو متفتحوش عنيكم عشان الإضاءة الجامدة هتخبط في عنيكم”، لينهي الضيوف تجربةً فقدوا فيها البصر لمدة 90 دقيقة، وخرجوا منها بمشاعر مختلفة، فالسيدة الستينية وفاء سليم خاضت التجربة من جانب روحاني متصوف: “الموضوع حسسني براحة نفسية رهيبة، وحسيت في وسط الضلمة دي إني قريبة أوي من ربنا وبشوف بقلبي، واكتشفت إن المكفوفين أقوى من المبصرين”.

أما حمدي بدوي صاحب الـ55 عامًا، كان خائفًا قبل بدء التجربة الجديدة، إلا أنَّ الخوف زال بمجرد الجلوس على مقعده، وساد مكانه ارتياحٌ كبير: “كنت مرتاح واحنا بنتعامل مع بعض من غير ما نشوف بعض، وكمان محدش بيبصلي وأنا باكل”، فيما خاضت السيدة الكفيفة سناء بدوي التجربة لتتبادل أماكنها مع المبصرين: “كنت حاسة بتوترهم في الأول وبدأت أزيل عنهم الرهبة والارتباك”.

في غرفة الاستقبال يجلس مجموعةٌ من الصديقات خرجنّ لتوهنّ من التجربة الجديدة يتناقشنّ حولها، فإحداهنّ رغم قلقها في البداية، إلا أنَّها اكتشفت قوة حواسها بالداخل، وأخرى حاربت رهاب الظلام الملازم لها وأكملت التجربة حتى نهايتها “ومش ندمانة وهاجي تاني”، وثالثةٌ تؤكّد أنَّها بعد مرور وقتٍ بسيطٍ داخل القاعة المظلمة بدأت تحدد شكل الأجسام وترسمها في عقلها وكأنها تراها “عدم وجود رؤية وأشكال تشغل التفكير خلت عقلي قوي جدًا ومخي بيرسم الأشكال وبيفكر فيها بتركيز”، بينما الصديقة الرابعة شعرت بارتياح كبير بينما تتعامل مع الآخرين بتجرد، دون الاهتمام بمظهرهم أو شكلهم أو بشرتهم.

صاحب الفكرة: نقلتها من أوروبا.. وهنا بيحصل تبادل أدوار بين المكفوفين والمبصرين لمدة 90 دقيقة
“الفكرة أوروبية خالصة وشوفتها في دول كتير برة على رأسها فرنسا، فقررت أنقلها مصر” بتلك الكلمات بدأ عبدالباسط عزب مالك المطعم وصاحب فكرته في مصر، حديثه لـ”الوطن”، فالرجل الكفيف سافر العديد من الدول حول العالم، كرئيس للمركز العربي للإعلام المتخصص لذوي الإعاقة لدعمهم حول العالم.

عدة أسبابٍ دفعت الرجل الستيني لنقل التجربة لمصر، أولها تشغيل عدد كبير من المكفوفين، فالطاقم المكون من 20 فردًا منهم 18 من المكفوفين، جرى تدريبهم على يد فريق فرنسي من المطعم الرئيسي في باريس، إضافة إلى تغيير ثقافة المجتمع عن المكفوفين عن طريق تبادل الأدوار بينهم لمدة ساعة ونصف، يدرك خلالهم المبصر أن الإعاقة فكرية وليست جسدية، فأي إعاقة يمكن تعويضها عن طريق تنشيط الحواس الأخرى.

لم يرغب الرجل في نقل التجربة بحذافيرها لمصر دون إضفاء الروح المصرية عليها “الأكل اللي بنقدمه هنا أكل فرعوني، بمكونات مصرية خالصة وقديمة مش مستحدثة”، كما أنَّ الضيف لا يعرف الوجبة المقدمة له حتى يمكنه عيش التجربة كاملة، إلى جانب النشاط لا يتوقف على الطعام “ممكن نخلي الضيوف يرسموا في الضلمة ويلعبوا شطرنج لو أمكن وكمان بنستعد لتدريب السيدات الكفيفات وإعدادهن ليكنّ ربات منزل ميقلوش عن المبصرات”.

مديرة العلاقات الدولية للشركة الفرنسية الأم: المطعم المصري يقدم وجبات فرعونية
شانيل دونوار مديرة العلاقات الدولية في شركة “دان لونوار” الفرنسية، والذي يعتبر المطعم أحد أفرعها، والمسؤولة عن افتتاح أي مطعم جديد للشركة منذ 10 سنوات، تحدثت لـ”الوطن” عن تجربة “الطعام في الظلام”، بتوضيحها أنَّ المطعم المصري هو رقم 11 للشركة في 8 دول حول العالم هي: فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وروسيا ونيوزيلندا وأستراليا والمغرب، وأخيرًا مصر.

التجربة في مصر أخذت طابعًا وبعدًا ثقافيًا مختلفًا عن جميع دول العالم حسب “دونوار”، فالطعام المقدم في كل المطاعم حول العالم ليس محددًا، هناك تُقدم أي أنواع، إلا أنَّه في المطعم المصري يحرص القائمون على أنَّ يحمل الطعام طابعًا فرعونيًا قديمًا يحمل ثقافة البلاد وحضارتها وتاريخها بين نكهاته المختلفة، وهو البعد الذي ربما يكون مساعدًا على نجاح الفكرة في مصر وانتشارها في أماكن أخرى.

وفقًا لوجهة نظر مديرة العلاقات الدولية في “دان لونوار”، فتجربة الطعام في الظلام تجربة تعليمية، فالضيوف يأتون في البداية لخوض تجربة جديدة، إلا أنَّهم يخرجون بعد أنَّ تعلموا أن المكفوفين يمكنهم العيش بشكل طبيعي، كما أنَّهم يتعلمون استخدام حواسهم في الظلام، ويتعلمون شيئا جديدًا عن الطعام الفرعوني القديم، ويتعلمون التعامل مع الآخرين بتجرد دون أحكام مسبقة مبنية على الشكل والمظهر واللون، فالفكرة تتخطى كل تلك الحدود.

ألين لوليجوا: دوري نقل الاحترافية والجودة من فروع الشركة الفرنسية للمطعم المصري في 5 أشهر
أما المديرة المسؤولة عن الفرع المصري، والمنتدبة من الشركة الفرنسية، ألين لوليجوا، ستمكث في القاهرة لمدة 5 أشهر، تدرب خلالها طاقم الإدارة على كيفية تسيير المطعم بشكل احترافي كامل، مؤكّدةً خلال حديثها لـ”الوطن” أنَّ أكثر ما ستحرص عليه خلال فترتها في مصر هو نقل جودة “دان لونوار” العالمية للمطعم، فالشركة تمتلك فروعًا في معظم قارات العالم بجودةٍ واحدة.

مديرة العلاقات الدولية للشركة والمديرة الفرنسية المسئولة عن الفرع في مصر لم تكن تتمكنا من إتمام مهمتهما دون الجزائرية غادة طهيرية، تلك المشرفة الكفيفة التي أرسلتها الشركة لمصر لتدريب الشباب المكفوفين منذ 19 نوفمبر الجاري ليصبحوا على أتمّ الاستعداد للعمل كمرشدين للضيوف، وهي المهنة الجديدة على مصر.

الجزائرية غادة: أعمل مرشدة في الفرع الفرنسي منذ 11 عامًا.. ودربت مرشدي المطعم المصري في أسبوع

“غادة” تعمل مرشدة للضيوف بالمطعم الفرنسي منذ 11 عامًا، حسب حديثها لـ”الوطن”، وجاءت لمصر لإعداد طاقم من المشرفين والمشرفات المكفوفين لفرع مصر، والذين اختارتهم عن طريق مقابلات شخصية، ودّربتهم على طريقة استقبال الضيوف وإرشادهم والتعامل معهم وقيادتهم طوال التجربة، وأتمت مهمتها خلال أسبوع واحد، لتعود لفرنسا مباشرةً عقب افتتاح المطعم بشكل رسمي، مساء الخميس.

“لما سمعت عن الفكرة دي حسيت إنَّها حاجة مختلفة وهتطلع المكففين من مصر من حصرهم في وظايف معينة زي المدرس مثلًا” كلماتٌ بدأت بها سميرة سعيد، إحدى المشرفات في المطعم حيثها لـ”الوطن”، فالفتاة التي كانت تعمل مدرسة عقب تخرجها في كلية الآداب بجامعة عين شمس، أرادت كسر التابوهات الخاصة بالمكفوفين عن طريق تجربةٍ جديدة.

سميرة: تركت التدريس للعمل في المطعم.. وأحسست هنا أني أمتلك العالم

لم تجد “سميرة صعوبةً” في التدرب على المهنة الجديدة، كما أنَّها استمتعت خلال أول تجربةٍ لها في استقبال مجموعةٍ من الضيوف وإرشادهم “حسيت إنهم إخواتي وصحابي وإننا قاعدين في قعدة تعارف هم بيتعاملوا فيها من غير حساسية معايا”، كما أنَّها شعرت بمسؤوليتها عن تشكيل وعي المجموعة التي ترافقها عن العالم المحيط بهم وكأنَّهم مجموعة من الأطفال الذين يتحسسون خطواتهم الأولى في الدنيا.

تتمنى الفتاة أنَّ تنتشر الفكرة في كل مكان في مصر، وتساعد على تغيير نظرة المجتمع وفكرته عن المكفوفين “كان فيه ناس بتخاف مننا وناس مبترضاش تصاحبنا فاكرينا عبء عليهم وناس بتعاملنا بشفقة” وهو ما لم تجده في تجربة المطعم الوليدة، والذي شعرت خلاله أنَّها في عالم تملكه أكثر من العالم الخارجي، وأنَّها هنا مميزة عن الآخرين.

المصدر: الوطن.